وأنا اقرأ في حياة جبران خليل جبران توقفت بفكري قليلا عائدا إلى الوراء، وبالضبط قبل عشر سنوات في فترة الإعداد لامتحانات الباكالوريا التي مرت علي صعبة بالجو المختلف والسائد آنذاك المليء بالعقد وبعض أساتذة البقشيش الذين مارسوا علينا أول إطلالتنا في سنوات الترهيب والتفريق، وتطبيق القاعدة المعروفة “شكون بّاك” وتكتيك “كبش الفداء”.وما حز في نفسي إلى يومنا هذا، أنني كنت دائما في هذه “الكوميسيريات المصغرة-مخافر الشرطة المصغرة” أول أكباش الفداء!
وهي لعنة لازالت تطاردني إلى يومنا هذا أينما وُجد القمع والترهيب!!!وحتى بين صفوف الأطر العليا المعطلة كنت أول المعتقلين في مجموعتي،على يد جلاد المعطلين رئيس المنطقة الأمنية في إحدى الوقفات الاحتجاجية للمعطلين، وقد كانت تجربة قصيرة لم تدم الخمس ساعات ولكنها كانت أشبه لمن تعرض لهجوم من طرف “بلطجية-شمكارة” أو قطاع طرق بكل ما تحمل الكلمة من شراسة وهمجية..
“كبش فداء”اللعنة لا زالت تشكل لي العقدة التي لم أستطع التخلص منها منذ مرحلة نعومة أضافري الشقيّة،إلا في تجربة قصيرة في أيام المراهقة إلى المهجر، ورغم أنها لم تدم طويلا وكللت بالفشل (العودة خاوي الوفاض)، إلا أنها كانت ناجحة من حيث الجانب المعنوي،حيث فتحتُ عيوني على مفارقات كثيرة وعوالم أخرى من تقديس الإنسان خصوصا الذي يحمل جلدة الوطن..
مدرستي الحلوة التي لا علاقة لها لا بالحلوة ولا بالحلوى، كانت تضم أقسام دراسة أشبه إلى معتقلات مصغّرة نتلقى فيها أول دروس القمع والتهميش. يسيطر عليها بعض الأساتذة بدور مدير أمني داخل “مخفره المصغر” حيث لايُجيدون إلا الإبداع في القمع وإنتاج الكآبة، ولا يمكن أن تناسبهم إلاّ مهنة رعي البقر الوحشي أوجزارين أوسماسرة الفائدة في الجبن البخيس عن مزاولة أشرف وأرقى مهنة في التاريخ. كان أبرزهم في ذاكرتي أستاذ للتربية الإسلامية في إحدى الإعداديات “في عمالة درب السلطان- الفداء بمدينة البيضاء” الذي لا ينفك عن سب الربّ والدّين والملّة والوالدين..والاتجاه نحو أصغر التلاميذ سنّا للاستعانة بتكتيك”كبش الفداء” وتبليغ الرسالة داخل القسم “أنا أملك يدا من حديد !
هذا طبعا قبل أن يشتد عضدي وأكتسب بدوري تكتيكات الحماية ورد الصاع صاعين في أكثر من مناسبة كدت أن أطرد فيها بلا رجعة لولا مشيئة الأقدار..كان آخرها في السنة الأخيرة من الثانوية عندما ضيعت سنة بأكملها في رد ة فعل انفجارية أدّت إلى صراع وتلاكم مباشر لرد الحڭرة من تكتيك “كبش الفداء”.
وهذا لا يعني أن كل الأساتذة في هذا المنوال، فهناك أساتذة لا يمكن إلا أن أصفهم بالأنبياء بكل إجلال وتقدير واحترام ما زلنا نعيش على ذكراهم ومبادئهم التي علمونا من خلالها الكرامة واحترام الإنسان كإنسان، لا يفرقون بين احد، ويتعاطون مع التلاميذ كل حسب وضعه وظروفه الاجتماعية..إنه قبس من الإنسانية ولكنها في الحقيقة تبقى القلة القليلة جدا في ذاكراتي من أيام الدراسة قبل أن ألتحق بالجامعة وأتنفس الصعداء، ويأتي من بعد جيلي النظام التعليمي الجديد الذي لم يأتي بجديد إلا الأسوأ وإعطاء سلطات واسعة للأستاذ على الطالب، في جامعة ترمز للحرية والتنور والعلم وبناء الشخصية واكتساب المعارف والقيم الإنسانية المثلى.
عدت بذاكرتي الى تلك المساحات الخضراء الفسيحة وراء منزلنا الجديد الذي لم يكتمل بعد الى يوم كتابة هذه السطور، حيث كنت استيقظ باكرا لأحفظ بعض الدروس مُكرها في سياق إعادة البضاعة المحفوظة الى أصحابها منتشيا أول سجاراتي ومركزا في أوراق “تقرأ وتقرأ دون أن تفهم” أوراق تتضمن أساليب مبهمة وركيكة تقتل الذوق قبل أن تقتل ملكة التفكير بطريقة صياغتها، وأنا أمتعض و ألعن في كل أساتذة الحبر على الورق..أوراق لا يمكن إلا أن تقتل فيك كل ما هو إبداع وملكة فكر وإنتاج، أوراق تنبئك بمستقبلك المتلاشي والغامض أمامك، مستقبل يستقبلك باستفزاز عندما تجدهم مصرِّين على غباءهم وفاكهيين فيه ناعمين،خانقين أحلام الإبداع والحياة لشريحة من أطفال وأبناء هذا الوطن.
هذا النوع المتسلط كما هو الشأن لأحد المدراء وأنت تنظر إلى ملامحهم الجافة وهم يتبججون بربطات عنقهم التي توحي إليك من بعيد أنها لا تصلح “في حالتهم” إلاّ أن تكون حبلا لتخنق فيهم كل الغباء ومعه كل عنجهيتهم، خصوصا عندما يتباهون ويتبجحون بقدرتهم في إحقاق الحقيقة وإنجاح النجاح وهم مدرسة إنتاج الخوف والاستكانة وقمع الإبداع، والثُّقبُ أين يتسرب إحباط النفوس ومكمن الفشل!!
وأنت بينهم تجد نفسك مجبرا على الخضوع لعقوبتك النفسية صامتا ومُصغيا لأحاديثهم التّافهة في حصصهم الإجبارية، فيوسوس لك شيطانُ ضُعفِك حيناً، أن تحاولَ مشاركتهم طقوس الغباء مجاملةً، فلا تستطيع..!!
كنت أدخن أكثر من خمس سجائر، حيث كان التدخين بالنسبة لي متعة وليس عادة مستبدّة، متأملا في تلك المساحات الخضراء التي بدأت تنتابها الصفرة في إعلان بطيء عن بداية دخول فصل الصيف بحلته الصفراء وحرارة شمسه الساطعة.. أعوذُ بِنفسِ بَقايا الذّاكرة متأمّلا ومتسائلا في هذه اللحظات: لماذا يا ترى كان ينتابني حزن عميق متواصل طوال الوقت؟ وكلما توقفت في طريقي منتفضا محاولا نفض غبار هذا الحزن الغريب عن وجداني وأعماقي إلاّ وزادتني المحاولة غيضا بدون جدوى! وأن أعود متسائلا بشكل أسطواني عن مصدره دون أن أجد جوابا شافيا في عقلي..وتبقى روحي ضائعة شريدة و كأنها تنتظر محطة الإقلاع لطائرة تأخذني نحو وجهي البعيد الذي افتقدته، المتبسّم أمام نور الشمس كالصنوبر الحلبي..هكذا أحببت، أو بالأحرى هكذا تمنّيت أن أرى كياني في أعماق البعيدة.
عدت إلى روحي مراجعا ومقتفيا أثر ذلك الحزن الشديد، فأحسَسَتْنِي روحي وذلك حوار النفوس ، بالإلهام والحدوس أن آخر أوراقه بعيدة التلاشي والسقوط. وكأني سجين بميعاد وأنتظر عتق روحي إلى يومٍ بميعاد!!!
بقيت أنا مؤمنا بالصمود وقلت منتفضا بهدوء الحكماء: من أنت يا حزني؟ أأنت في ضميري أم قلبي؟ أم أنت عقابي في دنيا الآثام أم أنت شيطاني وماردي العنيد؟
كانت روحي ترى كلّ ما حولي سخيفا بعقليات من الجحيم تعشش فيها العناكب في غبار من الخريف يخلق السعال ويخنق بهاء النفوس ويدنس رونقها العميق وأنت تحس بالضياع الشديد عندما تجد نفسك ملزما بمحيط يضج بعقليات سطحية لا تصنع إبداعا ولا جمالا ولا تسمو في الحياة بمعانيها الإنسانية، وإنما تتنافس في صنع الضجيج وإنتاج النَّتانة وتملأ بها الدّنيا صراخا كما ملأ أرخميدس الدنيا صراخا عندما لاحظ أن منسوب المياه ارتفع عندما انغمس فيها، وخرج يصيح (أوريكا، أوريكا) أي وجدتها وجدتها، لأنه تحقق من أن هذا الاكتشاف سيحل معضلة التاج !!
والفرق هنا بسيط فصراخ أوريكا، وَجد وأَوجد لِدُنيا الإنسان شيئا، والصراخ الآخر أَوجدته مؤخرة الدّنيا حيث نتَانتُها لا تُطاق بعقلياتٍ يسودها كلّ الغبار.عقليات لا ترمي في محيط دنياها إلاّ ما ترمي مؤخراتهم كل يوم وكل صباح حيث سجن المحيط ، ودنيا تحيط بك حقارة ونَتَانة بعيدا عن ضفتها الأخرى حيث وجهها النّاضر الجذّاب والممتع كتلك المرأة عندما تتمايل وتتدفق أنوثة من كل صوب ..
صراخ وصراخ..صراخ ولكن الفرق شاسع !
ما أصعب سجن النفس في مؤخرة الدّنيا حيث تترامى الهوامش..
وانت متمسك بقبس لا ينطفئ من طهارةِ نفسك، متطلعا إلى وجه الحياة، تتأمل في الماضي البعيد والقريب، وتُكرِّر داخل أنفاسك نشيد الحياة هامسا في أعماقها: وما جُبِلت يا روحي إلا لِتكوني طليقة كأفقِ السّماء وبهاء الرّبيع. فلتذهب أعشاش العناكب المعشِّشة على غبار المومياءات إلى قبور الظّلام.
الموت، موت البهاء وموتٌ في النفسِ صفاءُها، وكم من جُثّة تمشي على الأرض ضجيجاً وصراخا، وتملأ المحيط نَتَانةً تفوح نتانة كل صباح بأفعالها،وحتى في المساء عندما تسكن الحياة لباسها..
من لم يزد خيرا في الدّنيا كان زائدا عليها! ومن زاد فيها خبثا كان عليها غيضا وغائطاً..
نفوس قد يكون في نقصانها من الوجود خير للشجر والبشر وحتى الحجر..
-هوامش الدنيا من عالمنا الفسيح كقفص يخنُق طهارةً من رونقِ طِيبِ النّفوس، وذلك وأدٌ لها وقبرُها في الحياة، وما قبرُ الموتِ كقبر الحياة!
يا روحُ اِنسي ما قد مضى واِزهدي فيما سيأتي. فلِما الخوف من قبر الموتِ ومصيرُكِ في يد العدلِ المطلق! حيث تحيط ملائكة الرحمان عندما تفترشين العشب ليلا وتلتحفين الفضاء، وترتاحين في الأفق وأمامك نجوم السماء.
وفي أعماق بحار هذا التأمل يُخبِّرني حديث روحي ويتلاشى حزني كما تتلاشى أيام سِجني، وكأنّها معدودة كما شعرت لِبُرهة وأنا أحتسي آخر قطراتِ كأسي،وما الحدُوسُ إلاّ منطقُ الأرواح وهمساتها!
 للدنيا وجهان أحدهما ماخور كبير..
 يقول شاعر الأسى وشاعر الحياة أبو القاسم الشّابي :
 مهما تضاحكت الحياة فإنني أبداً كئيب
 أصغي لأوجاع الكآبة، والكآبة لا تجيب
 في مهجتي تتأوه البلوى، ويعتلج النحيب
 ويضج جبار الأسى، وتجيش أمواج الكروب
 إني أنا الروح الذي سيظل في الدنيا غريب
 ويعيش مضطلعاً بأحزان الشبيبة والمشيب
           الزمان:      أنجز في 6 من أبريل 2011    
           المكان:      من داخل -حزني- الذي هو سجني  الموجود في سجني الآخر من وطن مسروق.
                                  سجن في سجن.. وما أكثر سجونك يا دنيا !! 

             حفظنا الله و إياكم من غياهب السجون
                         السلام عليكم 
                      
                "محمد بوعلام عصامي"